
الشجرة التي كشتنا تحتها قبل عشرين عامًا، ما زالت كما كانت، كبيرة، وقوية ولا تُثمر إلا في الكوابيس. أتذكر رائحة الهايلكس الذي عاش آمادًا وحقب في المزرعة، وتخمر برائحة البرسيم والبرية والنجوم اللمّاعة، ونحن نكدسه بكل العفوش، وعندما ركبنا، بدت البراري كلها مطواعة، لا يفصل عنها إلا دعسة بنزين وتعشيقاتك الهادئة، إذ تقطع بنا الكثبان والسيوف، ونوافذ سيارتك تتصفحها المرائي، ونشعر مثل ما كنت تشعر، أنّ في الصحراء شيءٌ من ما تركته المجرّات والكواكب البعيدة، من التيه الكوني والجفاف، شيء لن تجده في أي بقعة أرضية، الصحراء، كما كنت تقول، هي أقرب نقطة إلى السماء، وكنا نعتقد أن هذا درس مادة العلوم التي كنت مدرسًا استثنائيًا لها، درس سنأخذه عندما نصل إلى سادس ابتدائي، لكنّه تأخر كثيرًا. بين فترة، وأخرى، صادفت على الأقل ثلاثة من طلابك، وما زالوا يذكرونك، وتغلف أعينهم لمعة تضمر شيئًا لا أفهمه، أحدهم يقول أن السنة التي درّست فيها بإحدى الهجر المجاورة، كانت مثل الحلم.
في السنوات الماضية فُتَح طريقٌ زراعي، إزفلته وخطوطه الصفراء تتلامع في جِدّتها، ولا تعكس إلا أطيب أنواع السراب، وتُورّى لي في حياة زولك، تقف على خطّ المدى، ظلّ لا نميّزه يرتعش، ويتدلى شماغك المربوط على رأسك مثل جديلة حمراء. اليوم أصبحت شجرتك هكذا، شجرة على جال الطريق، لا يميّزها شيء، وستحقر الكشتة تحتها، مثل ما كنت تحقر كل من يكشت على جال الطريق، وتقول أن الأرض وسيعة لا يحدّها إلا رفالة الناس. وَجدت تحتها راعي يستظل، صوّرته، وأصر علي أن أصوّر قطيع الأنعام التي يرعاها، وبدا لي أنه يريد إثبات علة وجوده هنا، وأن المكان ما زال قاصي، لن يقف فيه إلا الرعاة، ومجانين الكشّاتة.
الذكريات مثل ثمار الزمن. لا شيء يشبه ثمار الطفولة، غزيرة، وحية، غمّارةٌ في الحس، ومع تقدم العمر، لا يثمر الزمن إلا يباسًا شحيح، مثل ثمار هذه الشجرة في الكوابيس. عندما ركبت سيّارتي، تذكرت شنطة الكاسيتات، ذكرى غابت عني طوال السنين، ربما لأنها لم تكن من العفوش التي أخرجناها من غرفتك بعد وفاتك، وأودعها أبي في المزرعة. كلها شعر، وكانت قصيدتك التي لا تملّ من تكرار تشغيلها، تبدأ هكذا: “يا طير عقبي كن خاطرك شاين، خاطرك شين وغيبتي عنك يومين، النقص فيك مبين له بواين، في لمعة الريشة وفي ناظر العين، يا طير أنا ويّاك كنا خداين، وبيني وبينك ولف ومعاملٍ زين، حتّى يكمل عبدالله بن عون: الوقت ما تاليه معنا بزاين، والبر في حادور من حين لحين، أدناه مليان كراتين فاين، وأقصاه ضايق وضيّقوا به هَل الضين” ثمّ تهز رأسك، وتضرب بيدك طربًا على الدركسون، ولم نكن نفهم شيئًا.

كان يقف ويمرر كفه الطويلة على الجذع العملاق، ثم يحضنه في محاولة لقياس عرضه بالحدس على الأقل ويعقد حواجبه كما لو أنه ضغط زر الحاسبة ثم يقول أن عمر الشجرة يقترب من الثمانين عاما أو جاوزها. يقول أن الأثل مساكن الـ «بسم الله الرحمن»، ويشير بعينيه في محاولة لتنبيهنا بالخليقة الخفية المتحلقة حولنا، ثم يقطف من ورقها الأخضر ويعصره حتى نرى الملح ويقول «شفتوا؟»، وتدور نظراتنا في حيرة حتى يمتعض من عدم فهمنا، وينطلق في شرح طويل ويقول أن الجن ليس كما نتصوره بل أن جني هذه الشجرة هو بحرٌ لجي مدفون في ظلمة أكبر أحلك من كل الليالي ولا يظهر منه في عالمنا إلا هذا الملح، ثم يمص الورقة، ويقول: أكلت الجنّي، ويضحك مقهقهًا مثل شرير في مسلسل كرتوني. الأصول الأولى للأثل غير معلومة وهناك تقديرات بأنها نشأت في وسط آسيا، ثم انتشرت ببطء في الربع الخالي الذي كان غابة ذات أنهارٍ جارية وأنعام، في وقت زالت الصحراء فيه تتقدّم ببطء من النفود الكبير شمالًا. لم أعرف عن هذه المعلومة إلا بعد بحث طويل عن ارتباط الأثل بالجن، الربع الخالي، الصورة الأولى والأوحد للصحراء في مخيّلتنا، هو آخر ما تصحّر في الجزيرة. تحوّل الأثل مع انتصار الصحراء من شجرة تسكن ضفاف الأنهار حصرًا، إلى كائن متوحّش ينشر الملح في التربة التي حوله ليطرد أي شجرة قد تنافسه في الوصول للمياه.
أن تنجو كل ثمانين عامًا دون أن تتحرك شبرًا واحدًا من مكانك هو بالتأكيد أمرٌ يثير الإعجاب، أدركت أن عمي اختلط عليه الأمر بين العوسج والأثل، أو ربما كان الأثل أكثر منطقية بالنسبة له، فربيعه لا يبدأ إلا في الصيف، تخضّر أوراقه وتتفح زهوره ويمكنك أن تتخيّل أن من رآه لأول مرة مزهر في ساعة القيظ، وكل الحيوات وظلالها تنسحب وتختفي عندما تتوسّط كرة الحميم في كبد السماء، سيقف متحيّرا تحته ولن يجد تفسيرًا إلا أنه وقع في فخ لجني خدّاع يريد أن يغويه ويتلبسه.
إن أشد الأشياء ذعرًا هي ما يناقض نواميس المواسم والأنواء الراسخة، لذلك لا تقوم القيامة، إلا بعد أن تشرق الشمس من مغربها، العلامة الأخيرة، اليقين الذي ليس بعده توبة. أتذكر عندما حكت جدتي لنا عن تجربتها بعد تركيب المكيفات لأول مرة في منزلها. كانت عائدة من منزل رفيقتها في عز الصيف وقد مشت مدة طويلة على أقدامها، تقول أنها غرقت في حيرتها عندما قرّبت رأسها، وحتى أنها خرجت للحوش تتفقد الجزء الخارجي، ولم تفهم. في اليوم التالي أخرجت الحطب وأشعلت النار داخل البيت، لأنها لم تعرف كيف تطفئه، دخل عليها جدي آخر العصر وأطفأ الزر وخرج، هكذا، كعادة جدي في قلّة كلامه، وتعامله الصامت المتعالي الذي يجعلك تشعر أنّه يعيش في زمن أمامنا، زمن وَقَعَت فيه الحوادث وانقضت، إذ يلتفت إلينا بين وقت وآخر ويرمقنا بعين من سئم الانتظار. تقول أنها جاها شيء مثل ضيقة الصدر ولم ترتح لا للهواء ولا الصوت وكانت تقوم منكتمة أحيانًا، ومثل كثير في عمرها اعتقدت أنه جني يأتي بالهواء من أماكن قاصية أو حتى من أزمنة سحيقة. أتذكر أني وقفت على عتبة الباب الداخلي بعد ما أنهينا ترميم منزل جدي وغيرنا كل مكيفات الشباك إلى تلك المستطيلات الطويلة، وأبي تتعالى ضحكاته على تشبيهها الحانق إذ كانت تقول له:«جبتوا لي هاللي كنّه تابوت على الجدار»، ورغم أنها لم تمرض منها بتاتًا، ما زالت إلى اليوم ترتاب من المكيّفات وتعتقد أنها أم الأمراض كلها، وأنه في يوم ما سيصيبها بمرض يفوق كل ما جربته، وهي التي نجت من الجدري والحمى وأمراض لم تعرف أصولها. حرّكت سيّارتي من أمام الشجرة، وانطلقت في الطريق، وغرقت في هواجيس طويلة متخيّلًا كيف يقضي يومه هذا الراعي. فكرة لن تطرأ على بال عمي أبدًا، وربّما لو قلتها له، نقصت نصف رجولتي. فلا فرق في وجهة نظره بين الرعاة، ومن يسكن تحت المكيفات.

ربّما يقوم فجرًا، ويسحب أغنامه معه، يُسرّحها لتطأ نفس الخطى التي وطأتها ملايين الأنعام قبلها، وتترك وراءها آثار هشّة تتلاشى كلها في ساعة الغروب، يومٌ مثل بقيّة الأيام، يُمسح مثل ما مُسحت، ولا شيء يبقى. في آخر الظهيرة، رمى خمسة أحجار تزجيةً لوقته، وابتسم فخرًا لتجاوزه الكثيب العملاق الذي يذكره بكرش والده. قبيل صفرة المغرب، وقف ينظر في كتيبة الضين، وبالحدس البدائي، أدرك نقصان عددها أول ما حطّت عينيه في المدى، واحدة. بحث عنها ووجدها تمشي بخطوات لا تشبه بقيّة الأغنام، كما لو أنها تعرف أين وجهتها، وعندما اقترب منها، وعرفها من ندبتها، الغنمة التي لا طالما شَعر أنها ممسوسة ومعتلة.
حاول سحبها إلى بقية القطيع. في منتصف الطريق وهي تقاومه، لتستمر في طريقها للاتجاه المعاكس، غضب عليها، وتركها، وهو يتمتم، كما لو أنه يقول في لغته:«خذي اللي تبينه يا ملعونة الوالدين، خذي موتك كانك تبينه». وقفت في محلها ونظرت إليه ثم التفت إلى المدى البعيد، وأحجمت عن جنونها ورضخت. في الليل، سيقلّب في هاتفه الذي لا تصله الأبراج لكنه حمّل فيه لعبة وهو واقف على أحد محطات الطريق، بعد أن أعاره عامل وصولًا إلى الشبكة. سيلعب وحشرات الضوء تحوم حوله، حتى يغلبه النوم ربما سيحلم عن جني الشجرة، أو على الأرجح سيحلم بأبي فانوس، إذ يجلس في الحلم أمامه، وتتحلّق حوله فوانيس كثيرة، بكل الأحجام، أصغرها كبر الإصبع، وأكبرها بحجم البعير. ستتكلم الفوانيس، وستشع أنوارها بإيقاعات تماثل تقطيعات جُمَلها، يبدأ أصغرها الحديث، ويرتد مثل الصدى عند أكبرها، وستستطيع سماع المسافة الشاسعة. ستقول له أن لديها أخبار مهمة عن والدته، وعليه أن يصغي جيدًا. وسينقبض قلبه، ويتحرّى. ستتحدّث كلها مرة واحدة، وستختلط أصواتها، ثم ستصمّه، ولن يسمع.
عندما يستيقظ من الحلم، سيقف في الفجر على نفس محله المعتاد، وسيجد الصحراء بكرًا من جديد إذ مُسحت كل خطى الأمس، ستفترض أن دورة الآثار هنا هي الأقل على كوكبنا. لا أثر يبقى في اليوم الذي يليه، لكنه ستتعجب أنه على بُعد ساعة أو ساعتين من الشجرة التي يقف أمامها، ستجد آثار أقدام بشرية متحجرة تعود لمئة وعشرين ألف عام، الأثر البشري الأقدم في صحراء الجزيرة، ما زالت هناك لحظة معلّقة في تيار الزمن عند بحيرة مندثرة، سمّوها «بحيرة الأثر». وجدوا مع الخطى البشرية آثار لوحوش مفترسة وفيلة ضخام كانت تقف على البحيرة في نفس اليوم، ربما كانت قافلة تجار لعصور لم يبقى من خرائطها وكتبها شيء، وربّما كانوا بشرًا بدائيين، تسللوا عابرين، ليشربوا الماء، لكنه هنا اليوم، في زمن لا تبقى فيه الآثار، إلا في الشاشات والفضاءات الخفيّة.
في أحلك أيام السنة، سيقف عند المراح، وسيرى نورًا يتلألأ في آخر المدى، يشع ويختفي مثل نجمٍ أرضي، ثم ستبرق ذاكرته بالأصوات، وسيحاول تذكّر شيء ما، وسيشعر كما لو أن كل العالم ممر طويل من الستائر التي لا تنتهي، وسيفتح الستارة الأولى، ولن يجد شيئًا، ثم الثانية، والثالثة، ستائر، وستائر وستائر، يسحب ولا يجد، يسحب ولا يجد، حتى يقف أمام ستارة وحيدة، بعيدة، يختفي خلفها كل شيء، سيسحب، وسيجد فانوس وحيد صغير بحجم الولاعة وخنفسانة وعصفور، وسيتذكّر ما
قالت له الفوانيس. قالت: لا شيء يبقى.

هواجيسي ورطتني في متاهة من الدروب الزراعية التي تبدأ ولا تنتهي. الشبكة اختفت منذ خروجي عن الطريق السريع. لا لوحات ولا مزارع حتى الراعي الذي صادفته بدا كما لو كان وهمًا. بعد ما يقارب النصف ساعة من تجريب كل الانعطافات وفي نقطة هي الأرفع في هذه الأرجاء، رأيت الخيمة، وكل شيء أمامي ساكن كما لو أن تيارات العالم لا تجري في هذه الأراضي ولا حس إلا طنين أُذنيّ الذي يتعالى كل ما خبت الأصوات؛ الصوت الطبيعي للصمت كما كنت أعتقد في طفولتي، والذي أدركت لاحقا أنه حالة مرضية عندما زاد بشكلٍ غير محتمل. المرأى يصيبك بالريبة، ويُخيّل لك بدرب خفي يناديك إلى الخيمة. نزلت، وبداخلها قابلت شاب في أواخر العشرينات، قلّطني وألح على أن يقهويني، لكني أخبرته أني أريد سبيلًا للخروج من هذه المتاهة. أبدى التفهم وأخرج دربيل ضخم من كومة كراتين وعلّقه على رقبته بحمّالته الجلدية المهترئة وأشار لي بأن أتبعه.
أثناء مشينا سألته عن قبر رأيته يتوسط الخلاء. لم أتوقع جوابًا، بل كنت أحاول كسر السكون الذي طوّقنا لكنه فاجأني برده السريع، وقال أنه لتاجر مغمور توفي في تسعينات القرن التاسع عشر، كان يستجلب أطيب الخيول العربية من شتى أنحاء الجزيرة ويحدر بها إلى الكويت ثم يركب البحر إلى بومباي وهناك مكث أغلب حياته. يقول في آخر حياته أصابه الجنون وهوس العودة إلى الديار وعاد، وفي اليوم التاسع عشر بعد وصوله، خرج من الديرة يركض بلا توقف. أول الأمر، كان يتوهم خيلًا فقده في البحر أثناء رحلاته الأولى اسمه عتّاق، ويراه فجأة يجلس بجانبه وعينيه مغمومة بقماش أبيض يمتد إلى فكه العريض، ثم ساءت حالته وصار يرى كل جزء من الخيل يختفي ويتحول جسده إليه، رجليه ثم يديه ثم ظهره وأخيرًا رأسه. الرجل صدق أنه مُسخ لأعز خيوله، وبعد صرخات حادة تلاشت ببطء على حدود حائط القرى، فقدوه.
عندما بلغنا قمة الرمال تكشفت لنا روضة خضراء تختلط بزرقة السماء في الأفق البعيد ثم أشار بيديه حولنا وقال أن مراعيهم في هذه الأراضي منذ تلك السنوات، وكان أبو جده هو من شهد حكايته وعاون أخ التاجر في البحث لأنه يعرف المنطقة شبرًا شبرًا، وبعد حوالي الشهر من تتبع أثره، وجدوه ميتًا، وجثمانه تحلل ولم يميّزوه إلا باللجام الملفوف على رأسه. تنهّد وأظهر انزعاجًا صادقًا، ورفع دربيله وغطست عيناه ثم أعطاني إياه وأشار بسبابته إلى نقطة بعيدة، وتتبعت تعليماته غربا وشرقا حتى رأيت الطريق وتفرعاته، ثم أدركت لماذا اضطررنا لمعاينة الدرب إذ سيختلط عليك لو اكتفيت بالوصف الشفهي. ودعت الرجل وعدت لسيارتي وعندما التفت، رأيته واقف بجانب خيمته في جمود، مثل كل شيء حوله، كما لو أنه يقف هناك منذ مئات السنين، خرجت من المتاهة وأنا أفكر: ربّما لا ينجو هنا من سطوة الشمس إلا الجن والقبور.